تطوير الأعمال | Business Development

أبناء الظل


 أبناء الظل

مقدمة
هذه ليست حكاية عن الأسماء ولا عن التواريخ، بل عن الأرواح التي تهيم بين الأمكنة، تبحث عن وطن لا يلفظها ودين لا يكفّرها. الصورة في الذاكرة هي صورة الشيخ محمود الجبرتي، كما وصفه لي والدي — شيخ ومطرب من أسمرة، و في يوم و هو راحل الى مكة لأداء الحج ودّع عائلته و قال لا تبكو علي، ثم مضى يعلم أنه لن يعود. كأن في قلبه يقين الرحيل، وفي صوته وداع لكل شيء. رحم الله الشيخ محمود.

منفى بلا استقرار
وُلد الطفل بلا خريطة ولا عنوان. لا يدري من يكون، ولا إلى أين ينتمي. لم يكن الحلم واضحًا، كما لم يكن الحزن واضحًا. كان الأب في معركة صامتة ضد الانهيار بين واجبات لا تحيط بها حقوق. حاول، دافع، قاوم، لكن الأصوات من حوله كانت أعلى: أم غاضبة، حماة متربصة، وزوجة لا تعرف الرحمة، ومن خلف الستار جموع مجيشة بالجهل و الحرمان، وشيخ سلفي سرق إرث الأجداد ونصّب للدين قبيلة، وحاكم ورث كل شيء باسم العرق والقبيلة والقومية. لا يهتمون إلا بالنابغين ليقطفوا ثمارًا لم يزرعوها يومًا.
كان الطفل ميتمًا في حياة والده، رغم أنه حيّ. يرى في عينيه حبًا مكبوتًا، وحزنًا خاصًا — حزن من يعرف أن الحب لا يكفي حين لا تعترف بك البلاد، ولا يغفر لك التاريخ.
لم يمت الأب، لكنه خسر كل شيء. الوطن، الاسم، والسمعة. صار ظلًا يمشي في طرق لا تعرفه، يعيش بلا حاضر، كأنه ناجٍ مؤقت من عاصفة لا تهدأ. حتى الأرض التي ضحى بها من أجل أولاده لفظته، ولم يبق له إلا الذكرى.
أما الجد، فحمل عبء عائلة لا يرى فيها انعكاسًا له. لم يكن الخلاف دينيًا، بل شكليًا في التدين. لم يكن كرهًا، بل تباعدًا. ربّى أبناء لا يشبهون تقاليده، فظل يحارب ملامح أمهم فيهم بالصمت والجفاء. هم ليسوا "هو"... وللغربة فواتير لا تُدفع بالنسيان.
كان الأب يعلم يقينًا أن الأوطان التي هاجروا إليها لن تكون إلا فصلًا جديدًا من التحديات، ليس فقط مع الحياة، بل مع من يرون الوطنية أخذًا بلا عطاء وحقوقًا بلا واجبات. لم يدرسوا التاريخ ليدركوا أن السلفية التي صدّروها كانت من أسباب تيه الجبرتيين، وأن أمنهم جاء على حساب اغتراب غيرهم. ومع ذلك، حين يهاجرون، نجدهم ونقف معهم لأننا ذقنا الألم. لكن كل ذلك يُنسى عند أول اختلاف… ويبقى الأجر على الله.

وطني المصباح
تاهوا بين وطنين، فلم يحتضنهم أحد. في بلادهم الأصلية، كانوا مزيجًا دخيلًا: لا هم أحباش خالصون، ولا عرب خالصون. لغتهم مريبة، وثقافتهم "عربية أكثر من اللازم".
هناك، هواجس فقدان الهوية ضربت كل ما هو مستعرب، فكان الجبرتيون هم البوابة التي أُغلقت للأبد. ذابوا في الهامش، لكن الهامش لم يتسع، فهاجروا في كل الاتجاهات بعد الاستعمار الإيطالي.
في الخليج، فروا من الإقصاء ليجدوه بنسخة دينية. اتُهموا بالشرك لا لأنهم ابتدعوا، بل لأنهم أحبوا الله بالذكر والأناشيد والرقصات الروحية. لم يحتملهم من قرأ الدين حرفيًا، بينما تغاضى عن غير المسلمين.
ولم يكن الغريب فقط من طردهم. بعض الأحباش الذين لحقو بهم لكسب لقمة العيش، وجدوا في السلفية خلاصًا، فتبنوها، ثم نصّبوا أنفسهم حراسًا للعقيدة، ونفوا بها أبناء جلدتهم. جلسوا على منابر العلم، يوزعون تهم الضلالة على من كانوا يومًا من أهلهم. فلا تركونا نعيش في ديارهم، ولا تركونا نحيا بسلام في ديارنا، قالها أحدهم لأمه: أنتِ مبتدعة. لم يقلها غريب.
كيف لا و هم ينالون حضهم من "أهل الخير" من مساعدات، بعد ان فهمو ان الشرك هو سبب الفقر في البلاد الاسلامية و ان التوحيد هو من أثرى الخليج.
أما الجبرتيون، فاختاروا الصمت. لم يُكفّروا من كفّرهم. ذابوا، لم يواجهوا. ظلوا في الظلال، لا يُرى نورهم ولا يُسمع صوتهم.

عروبة العجم
نشأوا بين ثقافتين. القهوة بطقوسها، الأذان بلغته، والأغاني بإيقاعين. لا هم عرب خالصون، ولا أحباش صافون.
تعلموا أن يكونوا لطفاء لا يُرَون. أن يأخذوا من كل بيئة ما يُبقيهم أحياء. تعايشوا مع الحبشة، لكن قلوبهم قرأت بالعربية.
لم يكن ذلك تزلّفًا، بل انتماءً روحيًا. اللغة صلاة، لا أداة. والدين طريق نجاة، لا جنسية.
اتهموهم بسرقة التراث المحلي، رغم أنهم لم يصدروا يومًا ثقافة دخيلة أو ينغلقوا على أنفسهم. كانوا دائمًا منفتحين.
ضحكوا. ليس سخرية، بل لأن البكاء ترف لا يملكونه.
قال أحدهم: "نحن لا نصدر الدين، ولا الثقافة. نحن نُولد… ثم نذوب."
ثم جاء اليوم الذي اكتشفوا فيه الأحباش أن لهم جذورًا عربية حميرية. باتوا يتكلمون بها في المجالس العلمية في الخليج. ومع ذلك، لم يتغير شيء. لأن حتى آل إبراهيم ليسوا عربًا عاربة… فلمَ نطمح نحن؟ لهذا اخترت الرحيل، كما فعل من سبقني.

الأم التي تحب أبناءها
كانت هي اليقين الوحيد. الجذر الثابت. علمتهم الطيبة، ودين الأجداد، لا من الفضائيات.
لكنها لم تعلم أن البذور لا تنبت في الرمل. حدثتهم عن الجد الصوفي الذي ينام على الذكر، بينما مدارسهم تقول إنه ضال.
قالت لهم: "صلّوا كما صلّى والدكم، بخشوع." قال شيخ الاسلام : "لا يُؤتمّ به."
كبر الأبناء… وصاروا شيوخًا. حفظوا كتبًا تُكفّر أمهم، وردّدوها. لم يدركوا أنهم يجرحونها بكلماتٍ كانت هي من علمتهم نطقها.
وكانت هي… تمسح على رؤوسهم، تبتسم، وتصمت. لا ترد. تسامح فقط.


في ظلال الشمس
في الحبشة، عليك أن تندمج، أن تُخفي عروبتك لتُقبَل. تُصبح رقمًا في هوية لا تؤمن بك، وتتحدث بلسان لا يصدقك.
في الخليج، عليك أن تكون صورة من ماضٍ ليس ماضيك. تُختبر في الدين، ويُنكر وجودك إن كنت مختلفًا. مشايخ من أصل الأحباش جلسوا على منابر لا تتسع لأحد. "أنت دخيل"... هكذا يقولون، رغم أنهم يشبهونك.
يُطلب منك أن تطيع، أن تُثبت أنك تستحق… لكن الحقوق؟ لا أحد يعدك بها.
وفي النهاية، تجد نفسك حيث بدأت: في الظل. تُضيء دروب غيرك، ولا يُضاء دربك. تمشي وتدعو الله: "ربّ، إن كنت كتبت لي ظلاً لا يُرى، فارزقني قلبًا يرى الجمال، ومحباً بلا شروط"

تعليقات